تقارير

على أرصفة الغربة.. غزّيون مثقلون بذاكرة الوجع

بحقائب ممتلئة بالدموع، وعيون مثقلة بالوجع، غادر بعض الغزيين عبر معبر رفح، تاركين خلفهم أحبابًا يقاسون الجوع والحرب والبرد. ظنّ الجميع أنهم نجوا، ولكن النجاة لم تكن سوى شكلٍ جديد من الفقد؛ فقد وقفوا على أعتاب المعبر مثقلين بذاكرة لا تتركهم، يبحثون في الغربة عن منفى لذكرياتهم، ومأوى لنفوس أنهكها قهر الحرب.

فوق أرصفة المنافي الباردة، تنبض قلوب غزية لم تخرج بعد من تحت الركام... فكما تترك الحروب ندوبها على الأجساد، تركت أيضًا ندوبًا في الأرواح لا تندمل، بل تتسع كلما نخز القلب حنينًا إلى وطنٍ دُمر، وكلما ترددت في الأذن كلمة "غزة"..هم لم ينجوا تمامًا... هم وجوه ناجية، بقلوب موجوعة.

نور اسليم، واحدة من أولئك الناجين الذين تحدثوا لمنصة القدس 360. كانت كلماتها تسيل وجعًا حين قالت: "نجوت من الحرب، لكن جرحي الغائر أن ما تمنيته طيلة 14 عامًا تحقق في غزة بعد خروجي منها."

نور، زوجة الأسير المحرر طاهر عطوة، الذي قضى 14 عامًا خلف قضبان الاحتلال، حكت قصتها وهي تتقلب بين الحنين والخسارة: "زوجي قضى سنوات أسره يحلم بلحظة اللقاء وعناق أبنائه... لكنه حين تحرر، كنا قد غادرنا غزة."

في ظل الحرب، كانت نور تقاتل وحدها.. لا سيما في محاولة علاج ابنها البكر المريض "محمد"، فحملت وجعه على كتفيها وغادرت به نحو العلاج، حيث لا دواء في غزة، ولا مشفى يحتمل وجعًا جديدًا.

ولمّا حلّت صفقة "طوفان الأحرار"، كان اسم طاهر في طليعة المحررين. يومها، اختلطت الدموع على وجنتي نور. تقول:"كان أقسى يوم في حياتي... شاهدت أطفالي يبكون حين رأوا أصدقاءهم يحتضنون آباءهم، بينما وصلنا الفيديو الأقسى: طاهر يرسل لهم تحية، ويقول إنه التقى الجميع، لكن عينيه لا تزال تبحث عن أبنائه... فهم أغلى ما لديه."

وعلى بوابة المعبر، وقفت نور، تمسك أيدي أطفالها بقوة، تودع غزة التي باتت أشلاء مدينة، مغطاة بالركام وبألم الذكريات. نظرت إلى أبنائها وقالت، بصوت يرتجف بين الإيمان والخذلان:"سنعود... وسنجد والدكم هناك. هذا وعد الله بعد صبر السنين."

وانطلقت الحافلة نحو غربة مجهولة، تاركة خلفها شظايا وطن، وأملًا يتشبث بوعد اللقاء.

بوابة الوجع

وعلى ذات البوابة هذه، وقفت "رولا درويش" ودمعتها تختبئ خلف ابتسامة حزينة مندفعة لمستقبل خارج أسوار المدينة المحاصرة..تمسك يد والدها وهو يودعها بصمت ثقيل على قلبه، خبأت هي وجعها لفراقه وخبأ هو قلقه عليها.. ودعته وهي لم تتخيل يومًا أن تكون القبلات التي طبعتها على يدي والدها هي الأخيرة!

غادرت "درويش" غزة إلى تركيا، حاملة حلمها بأن تصبح مخرجة تروي للعالم وجع شعبها.. لكن لم يكد الحلم يبدأ في خطواته الأولى حتى اندلعت حرب إبادة على مدينتها.. كان الأقسى من ذلك أن الأخبار تأتيها متقطعة بعد أن نزح أهلها إلى جنوب القطاع بسبب اقتراب الدبابات المجنزرة من بيتهم، هذا الانقطاع عن أخبار أهلها كان كطعنات بطيئة في قلب الغربة، كما أسكن قلبها رعبًا متواصلًا من أي اتصال أو رسالة تصلها.

وفي إحدى ليالي القصف الكثيف، داهمها شعور ثقيل... ضيق في الصدر، وقبضة في القلب تنخز به وجعًا، أرسلت تطمئن على أهلها ولم تجد ردًا، فاستسلمت للنوم وقبل أن تغمض جفونها رن هاتفها برسالة على جروب العائلة: "عظم الله أجركم... الله يصبرك يا رولا على استشهاد عمو فريد."

ارتجف اسم "فريد" في ذاكرتها... هل يقصدون أبي؟ هل هو الذي استُشهد؟ بحثت في الرسائل كمن ينقّب عن إبرة بين كومة قش، بكت ذكرياته، بعدها، فراقه، عدم وداعه، إغلاق غزة، حربها، ووجعها! لكن الذي أوجعها أكثر سبب استشهاد أبيها، فقد تسمم من الطعام المعلب الذي مكث شهورًا على المعبر حتى يسمح المحتل بإدخاله في ظل المجاعة التي تعصف بأهل غزة منذ مئات الأيام!

كانت تتمنى "رولا" كما باحت لمنصة القدس 360 أن تعود بشهادتها، أن تعانق والدها على الجانب الآخر من البوابة نفسها، أن تقول له: "نجحت، يا أبي"، لكن البوابة التي ودعته منها، لم تكن سوى معبر للفقد، لا للقاء.

منذ ذلك اليوم، بقيت "رولا" في الغربة، تحمل على كتفيها ذاكرة مثقلة بالوجع، كأن كل لحظة مرت بها في حضن والدها باتت تؤلمها أكثر من فراقه.. ذاك الوجع هو جرح كل الغزيين الذين يبقون وحدهم في الجامعة حين تحل الإجازة ويعود زملاؤهم إلى أوطانهم، إلى أحضان عوائلهم، بينما هم يؤلمهم الحقائب العائدة بالفرح والشوق، يراقبون المقاعد الفارغة والمطارات التي تستقبلهم وصور اللقاءات المنتظرة بين إجازة وأخرى.. بينما يبقى بعدهم عن غزة ألمًا لا يمكن تجاوزه!

وبين ضجيج المطارات وصمت بلاد الغربة، يعيش أكثر من 200 ألف نازح فلسطيني خارج غزة.. ينامون على ذكرياتهم ويستيقظون على حنين لا يوصف! غادروها قسرًا تاركين وراءهم أنصاف عائلات، وأحبة تحت النار، ينتظرون العودة إلى غزة التي يحبون... لكن لا أحد منهم يعرف متى ستحين تلك العودة!

ياسمين عنبر

كاتبة قصص إنسانية، من عروس فلسطين "حيفا" ومهجرة أنا وأجدادي إلى مدينة الحب والحرب "غزة"
زر الذهاب إلى الأعلى